رِسَالَةُ عِتَابٍ إِلَى مَنْ تَرَكُوا آبَاءَهُمْ فِي دَارِ الْمُسِنِّينَ
خاص لـ ديرتنا – عمّان – كتبت رحاب القضاة
كَيْفَ سَمَحَتْ قُلُوبُكُمْ أَنْ تُطْفِئَ شُعْلَةَ الْحُبِّ الَّتِي حَمَلَهَا آبَاؤُكُمْ لَكُمْ مُنْذُ وِلَادَتِكُمْ؟ كَيْفَ أَصْبَحَ مَنْ حَمَلَكُمْ طِفْلًا، وَسَهِرَ عَلَى رَاحَتِكُمْ لَيَالِيَ طَوِيلَةٍ، مَنْ يُرْبِطُ أَحْذِيَتَكُمْ إِلَى مَنْ يُرْبِطُ أَزْرَارَ قَمِيصِهِ وَحِيدًا فِي دَارٍ غَرِيبَةٍ؟
كَيْفَ لِعُمْرٍ قَضَيْتُمُوهُ فِي دِفْءِ حُضْنِهِمْ أَنْ يُخْتَصَرَ فِي قَرَارٍ بَارِدٍ يُبْعِدُهُمْ عَنْكُمْ إِلَى مَكَانٍ لَا يُشْبِهُ دِفْءَ بُيُوتِهِمْ؟
فِي إِحْدَى دُورِ الْمُسِنِّينَ، جَلَسَ رَجُلٌ مُسِنٌّ فِي زَاوِيَةِ غُرْفَتِهِ، يُمْسِكُ بِصُورَةٍ قَدِيمَةٍ لِعَائِلَتِهِ. كَانَتِ الصُّورَةُ مُهْتَرِئَةً مِنْ كَثْرَةِ مَا لَمَسَهَا، كَأَنَّهَا نَافِذَتُهُ الْوَحِيدَةُ إِلَى الْمَاضِي. يَنْظُرُ إِلَيْهَا كُلَّ يَوْمٍ وَيَبْكِي فِي صَمْتٍ.
فِي إِحْدَى اللَّيَالِي، اقْتَرَبَ مِنْهُ أَحَدُ الْعَامِلِينَ وَسَأَلَهُ:
“لِمَاذَا تَبْكِي كُلَّ لَيْلَةٍ؟” فَرَدَّ الرَّجُلُ بِصَوْتٍ مُتَهَدِّجٍ:
“أَشْتَاقُ إِلَيْهِمْ…
كُنْتُ أَظُنُّ أَنَّنِي أُرَبِّيهِمْ لِيَكُونُوا قُوَّتِي حِينَ أَضْعُفُ، وَلَكِنَّنِي أَصْبَحْتُ عِبْئًا عَلَيْهِمْ.
وَمَعَ ذَلِكَ، أَنَا لَا أَلُومُهُمْ، رُبَّمَا كُنْتُ قَاسِيًا فِي تَرْبِيَتِهِمْ…
رُبَّمَا أَخْطَأْتُ فِي شَيْءٍ، أَوْ لَعَلَّ الْحَيَاةَ أَشْغَلَتْهُمْ عَنِّي.”
وَفِي صَبَاحِ يَوْمٍ وُجِدَ الْأَبُ جَالِسًا عَلَى كُرْسِيِّهِ، مَيِّتًا وَعَيْنَاهُ مُغْلَقَتَانِ عَلَى تِلْكَ الصُّورَةِ الْقَدِيمَةِ.
مَاتَ بِحَسْرَةِ الْحُبِّ الَّذِي لَمْ يُبَادِلْهُ بِهِ أَبْنَاؤُهُ.
أَيُّهَا الْأَبْنَاءُ، كَيْفَ تُقْنِعُونَ أَنْفُسَكُمْ أَنَّ رَمْيَ آبَائِكُمْ فِي دَارٍ لِلْمُسِنِّينَ هُوَ “وَاجِبٌ اجْتِمَاعِيٌّ”؟
كَيْفَ تُقْنِعُونَ قُلُوبَكُمْ أَنَّ الْأَمْوَالَ الَّتِي تَدْفَعُونَهَا تَكْفِي لِتَعْوِيضِ تِلْكَ اللَّحَظَاتِ الَّتِي قَضَوْهَا يَمْسَحُونَ دُمُوعَكُمْ حِينَ كُنْتُمْ تَبْكُونَ؟
تَذَكَّرُوا يَوْمًا كَانُوا يَحْمِلُونَكُمْ عَلَى أَكْتَافِهِمْ لِيُرُوا الْعَالَمَ فَخْرَهُمْ بِكُمْ. تَذَكَّرُوا يَوْمًا جَاعُوا لِتَأْكُلُوا، وَبَكَوْا لِتَضْحَكُوا، وَتَعِبُوا لِتَسْتَرِيحُوا.
أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ قُلُوبَهُمْ لَا تَتَوَقَّفُ عَنْ انْتِظَارِ زِيَارَتِكُمْ؟
أَنَّهُمْ يَجْلِسُونَ أَمَامَ أَبْوَابِ الدَّارِ كُلَّ يَوْمٍ، يُفَتِّشُونَ بَيْنَ وُجُوهِ الزُّوَّارِ، لَعَلَّهُمْ يَجِدُونَكُمْ قَادِمِينَ؟
الْحَيَاةُ دَيْنٌ، وَكُلُّ شَيْءٍ يَعُودُ
اعْلَمُوا أَنَّ الْحَيَاةَ دَيْنٌ، وَمَا تَزْرَعُونَهُ الْيَوْمَ، سَتَحْصُدُونَهُ غَدًا. فَإِنْ كُنْتُمْ قَدِ اخْتَرْتُمْ أَنْ تُدِيرُوا ظُهُورَكُمْ لِآبَائِكُمْ الْيَوْمَ، فَمَنْ سَيُدِيرُ ظَهْرَهُ لَكُمْ غَدًا؟
هَلْ فَكَّرْتُمْ فِي لَحْظَةِ ضَعْفِكُمْ، فِي سِنِينَ شَيْخُوخَتِكُمْ، كَيْفَ سَيَكُونُ شُعُورُكُمْ إِنْ تَرَكَكُمْ أَبْنَاؤُكُمْ بِنَفْسِ الطَّرِيقَةِ؟
عَوْدَةٌ لَا تُغْنِي عَنْ النَّدَمِ
عُودُوا إِلَيْهِمْ قَبْلَ فَوَاتِ الْأَوَانِ.
لَا تَدَعُوا الِاعْتِذَارَ يَتَأَخَّرُ حَتَّى يُصْبِحَ الْقَبْرُ هُوَ الْعُنْوَانَ الْوَحِيدَ الَّذِي تَسْتَطِيعُونَ زِيَارَتَهُ.
احْمِلُوا عَنْهُمْ مَا تَبَقَّى مِنْ أَحْلَامِهِمُ الصَّغِيرَةِ، وَأَعِيدُوا لَهُمْ الْكَرَامَةَ الَّتِي انْتَزَعَهَا قَرَارُكُمْ الْبَارِدُ.
حَادِثَةُ دَارِ الْمُسِنِّينَ الْأَخِيرَةُ لَيْسَتْ مُجَرَّدَ مَأْسَاةٍ عَابِرَةٍ.
إِنَّهَا دَرْسٌ لِكُلِّ ابْن
*حقوق النشر محفوظة ..يُسمح بالنقل أو الإقتباس شريطة الإشارة للمصدر وإسم الكاتبة