التعليم المهني بين الإحباط المحلي والتجربة السويسرية

خاص لديرتنا نيوز – عمّان
بقلم: الدكتورة إيمان عبد الوهاب الكساسبة – مركز اليرموك للدراسات والأبحاث
برغم من تعدد الخطط والسياسات الرسمية التي تهدف إلى تطوير التعليم المهني في الأردن وبرغم من التصريحات المتكررة حول أهميته الاستراتيجية في معالجة مشكلات البطالة وتحفيز النمو الاقتصادي إلا أن هذا القطاع ما يزال يعاني من ضعف الإقبال ومن تهميش مجتمعي مستمر يضعه في مرتبة متدنية أمام المسارات الأكاديمية التقليدية فالعقبات التي تواجه التعليم المهني لا تتوقف عند حدود البنية التحتية أو نقص الموارد بل تمتد إلى التحديات الجغرافية التي تحرم آلاف الطلبة في الأطراف من الوصول إلى مراكز التدريب وتصل إلى عمق الثقافة المجتمعية التي ترى في هذا النوع من التعليم خيارا للفاشلين دراسيا وليس مسارا مهنيا يفتح آفاقا واعدة للمستقبل وعلى النقيض من التجارب العالمية الرائدة التي حولت التعليم المهني إلى مسار ذهبي يستقطب المتفوقين ويسهم بفعالية في سد فجوات سوق العمل لا يزال المجتمع الأردني ينظر إلى هذا التعليم بعين الريبة والانتقاص الأمر الذي يجعل منه الخيار الأخير للطلبة ويحول دون استثماره كأداة حقيقية للنهوض الاقتصادي والاجتماعي وفي مفارقة مؤلمة يشهد سوق العمل الأردني وجود عشرات الآلاف من العمالة الوافدة التي تحتل وظائف مهنية مرموقة وتدر دخلا عاليا وهي الوظائف ذاتها التي يعزف عنها الشباب الأردني تحت ضغط الصورة النمطية مما يكرس حلقة مفرغة من التبعية والبطالة والهدر في الطاقات الوطنية
ومن التجارب العالمية التي تستحق التوقف عندها النموذج السويسري حيث لا يُعامل التعليم المهني كخيار بديل بل كمسار للنخبة يجتذب المتفوقين ويهيئهم لمستقبل مهني مرموق في بيئات عمل تنافسية فخلال سنوات من التدريب العملي والتعليم النظري يحصل الطلاب على شهادات مثل EFZ التي تفتح أمامهم أبواب العمل وتمنحهم فرصة مواصلة التعليم العالي أو شهادة EBA التي تشكل نقطة انطلاق نحو التخصصات الفنية والتطوير الذاتي هذا النموذج المرن الذي يربط بين المهارة وسوق العمل يمثل حجر الزاوية في نجاح التجربة السويسرية ويجسد تكاملا فعالا بين الدولة والقطاع الخاص في إعداد الكفاءات المطلوبة.
في المقابل يفتقر التعليم المهني في الأردن إلى مسارات واضحة للترقي والتطور المهني ما يجعله أقل جاذبية في أعين الطلبة وأسرهم ويكرسه ضمن صورة نمطية سلبية تضعه في خانة الخيارات المحدودة والفرص المغلقة فغياب الأفق المهني الواضح يعني أن الطالب الذي يلتحق بهذا المسار لا يملك تصورا دقيقا لمسار حياته المهنية بعد التخرج ولا يرى أمامه سُلما تصاعديا يمكن أن ينقله من موقع المهنة إلى موقع القيادة أو التميز أو الريادة وهو ما يحول دون استقطاب الكفاءات ويكرس الفجوة بين التعليم وسوق العمل ويضعف من مكانة هذا التعليم في الوعي المجتمعي
أما التحديات الجغرافية فهي لا تقل خطورة عن الصورة الذهنية بل تشكل حاجزا صامتا يقيد وصول الطلبة إلى هذا النوع من التعليم ويعمق من الفجوة التنموية بين المحافظات فعلى سبيل المثال في محافظة المفرق لا تتجاوز نسبة الالتحاق بالتعليم المهني واحدا بالمئة وهي نسبة تعكس واقعا صعبا تفرضه المسافات الطويلة وبعد المدارس وغياب البيئة الداعمة ما يجبر العديد من الفتيات على قطع مسافات شاقة من أجل الوصول إلى مركز مهني واحد إن وجد وفي محافظة معان تتضاعف هذه التحديات في ظل غياب وسائل النقل المخصصة للطالبات وانعدام البرامج التدريبية الفاعلة ما يؤدي إلى حرمان فئة واسعة من الفتيات من حقهن في التأهيل المهني رغم امتلاكهن القدرات والإمكانات وهو ما يكرس التفاوت التنموي ويعطل طاقات بشرية واعدة كان يمكن أن تسهم في بناء اقتصاد محلي منتج ومستدام
تعد الشراكة مع القطاع الخاص الحلقة المفقودة في مشهد التعليم المهني في الأردن ففي الوقت الذي تبنت فيه العديد من الدول نماذج ناجحة استلهمت التجربة السويسرية مثل الهند وبريطانيا ونجحت في إحداث تغييرات ثقافية عميقة جعلت من القطاع الخاص شريكا حقيقيا في تصميم المناهج وتنفيذ التدريب وتوفير فرص العمل لا تزال هذه الشراكة في الأردن محدودة وخجولة وتعاني من غياب الرؤية والتكامل فهناك قطاعات محلية واعدة كالسياحة والتكنولوجيا والصناعة تمتلك من الموارد والخبرات ما يؤهلها لتكون قاعدة لتدريب آلاف الطلبة وتأهيلهم لسوق العمل لكنها لم تُدمج بعد ضمن سياسة وطنية واضحة تقوم على التكامل بين التعليم والإنتاج
ويُفترض أن يلعب القطاع الخاص دورا محوريا لا يقتصر على توفير فرص التدريب بل يشمل المشاركة في وضع الخطط التعليمية ورسم خارطة المهارات المطلوبة ومواكبة التحولات السريعة في الاقتصاد الرقمي والذكاء الاصطناعي وغيرها من التخصصات الحديثة التي لا يمكن للقطاع العام وحده أن يواكبها دون دعم فعلي من مؤسسات الأعمال أما في السياق الأردني فإن تجربة المدرسة الأردنية الكورية الصناعية تبرز كاستثناء إيجابي يؤكد إمكانية النجاح إذا ما توافرت الإرادة والشراكة الحقيقية فقد استطاعت هذه المدرسة أن تدمج التعليم النظري بالصناعة والتطبيق العملي ضمن نموذج متقدم يُمكن البناء عليه وتكراره وتوسيعه في مختلف المحافظات ليكون التعليم المهني خيارا استراتيجيا لا مجرد بديل اضطراري
ولكن الصورة النمطية تمثل أحد أخطر الحواجز النفسية التي تقف في وجه تقدم التعليم المهني في الأردن فوفق بحث ميداني حديث فإن ما يقارب ثلثي الأسر الأردنية ترفض توجيه أبنائها نحو هذا المسار وترى فيه ملاذا للراسبين أكاديميا وليس خيارا متفوقا يفتح آفاقا حقيقية للعمل والنجاح وتكمن خطورة هذه النظرة في أنها لا تعكس الواقع ولا الإمكانات بل تعزز حلقة الإقصاء وتكرس الفجوة بين التعليم وسوق العمل بينما نجد في دول مثل سويسرا أن التعليم المهني يُعد المسار المفضل لدى فئة كبيرة من الطلبة المتفوقين ويُنظر إليه باعتباره بوابة إلى وظائف مرموقة وفرص غير محدودة للتطور المهني
وبرغم من هذا الواقع المقيّد بالتقاليد والأحكام المسبقة هناك مبادرات محلية تزرع الأمل وتثبت أن التغيير ممكن وأنه لا يحتاج إلى معجزات بل إلى نماذج ناجحة يتم دعمها وتوسيعها فقد ساهم برنامج BETC الذي يطبق في عدد من المدارس الأردنية في زيادة الإقبال على تخصصات مثل الزراعة والتكنولوجيا من خلال دمج المناهج الدولية بالتدريب العملي مما عزز ثقة الطلبة بأنفسهم وفتح لهم آفاقا حقيقية كما تُعد الأكاديمية الملكية لفنون الطهي في عمان واحدة من أنجح التجارب إذ تقدم نموذجا متكاملا يجمع بين التعليم والتدريب العملي بالشراكة مع مؤسسات دولية وتصل نسبة توظيف خريجيها إلى 100% في حين تبلغ البطالة بين خريجي المدارس المهنية التقليدية ما يقارب 35% وهو فارق يعكس مدى الفجوة بين النهجين
أما في المناطق النائية فتأخذ التحديات بعدا رقميا إضافيا حيث يعاني ما يقارب 40% من الطلبة من ضعف في الاتصال بشبكة الإنترنت مما يعوقهم عن الوصول إلى المحتوى الرقمي والتعلم الإلكتروني ويزيد من عزلتهم التعليمية والاجتماعية وقد يكون الحل في إنشاء مراكز تدريب رقمية متنقلة ومدعومة بشبكات اتصال قوية تضمن وصول المهارات إلى كل شاب وشابة في القرى والبوادي والمناطق الطرفية دون تمييز أو تهميش
ولا تكذب الأرقام حين نقارن بين الدول ففي الوقت الذي تسجل فيه سويسرا نسبة بطالة لا تتجاوز 03% بين الشباب فإن الأردن يعاني من معدل بطالة يصل إلى 24% وهو فارق صارخ يكشف حجم الأزمة التي يعيشها التعليم المهني وتوضح مدى الاختلال في المواءمة بين ما يُدرس وبين ما يحتاجه السوق المحلي فآلاف الفرص تُعلن سنويا في قطاعات مثل السياحة والخدمات ولكن الخريجين يفتقرون للمهارات العملية الحقيقية التي تؤهلهم لاقتناص هذه الفرص وكما قال أحد المدربين فإننا نعلم الطلاب المصطلحات ولا نعلمهم كيف يصنعون فرصهم
ولكن يظل التحدي الأكبر في الثقافة المجتمعية لا في الإمكانات المتاحة فالمجتمع لا يزال ينظر إلى الشهادة الجامعية باعتبارها رمز النجاح حتى وإن كانت بلا جدوى اقتصادية أو مهنية في حين يُقصي المهارات اليدوية ويصنف الحرفيين باعتبارهم في مرتبة أدنى من أصحاب الشهادات رغم أن الدخل الفعلي لبعضهم يتفوق على دخل كثير من خريجي الجامعات إنها عقلية تفضل المظهر على الجوهر وتمنح المكانة الاجتماعية أولوية على الإنتاجية الحقيقية وهي العقلية التي يجب أن تُكسر إذا أردنا لمستقبل التعليم المهني أن يكون رافعة حقيقية للتنمية والعدالة والكرامة الاقتصادية
ان النهوض بالتعليم المهني في الأردن اصبح مطلبا وطنيا عاجلا تمليه علينا التحديات الاقتصادية والاجتماعية وتفرضه الحاجة إلى إعداد جيل يمتلك المهارات الفعلية التي تتطلبها مرحلة التحول نحو اقتصاد الإنتاج والمعرفة وتفرضها التحديات الاقتصادية ومعدلات البطالة المرتفعة والطموحات التنموية التي لا يمكن تحقيقها دون منظومة تعليمية عملية وفاعلة غير أن هذا الإصلاح لا يقتصر على تحديث المناهج أو بناء المدارس والمرافق بل يتطلب تغييرا أعمق وأشمل في الثقافة المجتمعية التي لا تزال تنظر إلى التعليم المهني على أنه الملاذ الأخير للطلبة وتراه مسارا اضطراريا لا اختياريا كما يتطلب إرادة سياسية واعية تضع هذا القطاع في قلب السياسات الوطنية وتدعمه بالتشريعات والموارد والشراكات الاستراتيجية
ولا يمكن لهذا التحول أن يتحقق دون شراكة حقيقية وفاعلة مع القطاع الخاص شراكة لا تنحصر في التمويل أو الدعم اللوجستي بل تمتد إلى صياغة الرؤية وتصميم البرامج وتنفيذ التدريب وتقييم المخرجات فالمؤسسات الخاصة تعرف ما يحتاجه السوق وتدرك نوعية المهارات المطلوبة في كل قطاع وهي الأقدر على خلق فرص التدريب والعمل إذا ما مُنحت المساحة والمرونة للمساهمة الفعلية في بناء هذا المسار
وعندما تتكامل جهود الدولة مع ديناميكية القطاع الخاص ويُعاد تشكيل الوعي المجتمعي تجاه التعليم المهني يصبح بالإمكان الانتقال من واقع التهميش إلى فضاء التمكين ومن مسار الضرورة إلى مسار الفرصة ومن مأزق الصورة الذهنية السلبية إلى مسار وطني شامل يُنتج جيلا من الشباب القادرين على العمل والإنتاج والابتكار عندها فقط يصبح التعليم المهني أداة استراتيجية حقيقية للتنمية الاقتصادية والاجتماعية لا مجرد بديل مؤقت أو خيار من الدرجة الثانية