“إختنقْتُ بصمتهم… وسُرِق صوتي” الابتزاز العاطفي الصامت عند الوالدين

ديرتنا – عمّان
بقلم: د. شادية خريسات – أخصائية نفسية
في عمق العلاقات الأسرية، يختبئ نوع من العنف لا نلاحظه بسهولة، لأنه لا يُمارَس بالصوت المرتفع أو اليد المؤذية، بل يُمارَس بالحب المشروط، والقلق المتنكر في ثوب الحماية، والقرارات التي تُتخذ باسم “المصلحة” بينما تُسلب فيها حرية الأبناء بهدوء… إنه الابتزاز العاطفي الوالدي، حين يُقتل صوت الأبناء ببطء تحت شعار: “نحن نعرف مصلحتك أكثر منك”.
أتابع من خلال عملي كأخصائية نفسية قصصًا لا تُروى علنًا، لكنها تتكرر بشكل مؤلم خلف أبواب البيوت، حين يُقرَّر مستقبل الابن أو البنت في لحظة ليست لهم. يُفرض عليهم تخصص جامعي لا يحبونه، أو يُمنعون من الزواج بمن اختارهم قلبهم، أو يُدفعون للبقاء في مدينة لا يشعرون فيها بالراحة، فقط لأن الأهل رأوا أن هذا هو الأفضل.
الابن أو الابنة لا يُعارضون، ليس لأنهم موافقون، بل لأنهم لا يريدون أن يُتهموا بالعقوق. فيُسكت صوتهم الداخلي، وتُدفن أحلامهم في صمت مرير، وتُولد بداخلهم مشاعر مختلطة من الغضب والحزن وفقدان السيطرة.
الابتزاز العاطفي لا يأتي على شكل تهديد مباشر، بل يتسلل بصيغ مثل:
“إذا بتحبنا، لازم تسمع كلامنا.”
“ما رح تلاقي حدا يحبك زي أهلك.”
“رح تندم، بس وقتها ما تلوم غير نفسك.”
“إحنا تعبنا عليك، وبدنا تفرحنا باختياراتنا.”
هذه العبارات، رغم أنها مغلفة بالحب، تُحدث شرخًا داخليًا عميقًا. يصبح الأبناء في صراع: هل يرضون أنفسهم، أم يرضون والديهم؟ وهل حب الوالدين مشروط بالطاعة؟ وهل النجاح في الحياة يُقاس بما اختاره الآخرون، أم بما يشعرون هم أنه يناسبهم؟
رأيت شبابًا أنهوا دراساتهم في تخصصات لا يحبونها، فقط لأن الأهل أرادوا “مستقبلًا مضمونًا”، لكنهم يعيشون اليوم في فراغ عاطفي واحتراق داخلي. رأيت فتيات أُجبرن على رفض شركاء حياة لأن الأهل لم يوافقوا، فبقين يحملن جرحًا لا يُشفى.
النتائج النفسية لهذه التجارب لا تقل عن الأذى الجسدي: قلق دائم، اكتئاب خفي، شعور مزمن بعدم القيمة، وفقدان الثقة بالنفس والقدرة على اتخاذ القرار.
إن التربية الحقيقية لا تعني السيطرة، بل تعني التوجيه والدعم. الوالد الناجح هو من يقف خلف ابنه لا أمامه، من يستمع لصوته الداخلي لا يكممه، ومن يمنحه الثقة ليقرر، حتى لو كان القرار مختلفًا عن رغباته الشخصية.
في زمن نحتاج فيه لمجتمعات ناضجة وقادرة على اتخاذ قراراتها، لا بد أن نعيد النظر في طرق تربيتنا لأبنائنا. أن نمنحهم الحب غير المشروط، ونفصل بين “المخاوف” التي نحملها كآباء، و”الحقوق” التي يملكها أبناؤنا كبشر مستقلين.
الابن الذي يُمنح حرية الاختيار، يُصبح أكثر نضجًا، أكثر ثقة، وأكثر وفاءً لأهله، لأنه لم يُجبر، بل اختار أن يكون معهم… بحب، لا بواجب.
لنُراجع أنفسنا، ونسأل: كم مرة قررنا عن أبنائنا دون أن ندري أننا سلبنا منهم حياة كانوا سيعيشونها لو فقط استمعنا؟
دعونا لا نقتل أحلامهم بدافع “الحب”… بل نحبهم حقًا، بأن نمنحهم حرية أن يكونوا أنفسهم.