اضطرابات المهارات خريجون بلا وظائف ووظائف بلا خريجين في العالم العربي

خاص لديرتنا نيوز – عمّان
إعداد الدكتورة ايمان عبدالوهاب الكساسبة / مركز اليرموك للدراسات والاستشارات
على الرغم من أن الشهادة الجامعية كانت هي الحلم والمفتاح الذهبي الذي سيفتح لنا أبواب المستقبل من أجلها سهرنا ودرسنا وبذلنا أغلى سنوات عمرنا ولكن يبدو أننا وصلنا اليوم ومعنا المفاتيح لنجد أن الأقفال كلها قد تغيرت والشعور محبط كأنك جريت في سباق طويل وبذلت كل طاقتك لتكتشف عند خط النهاية أن وجهة السباق كانت في الاتجاه الخاطئ تماماً هذه ليست مجرد بطالة بل هي قصة جيل كامل يشعر أنه أدى واجبه لكنه تُرك وحيداً في منتصف الطريق
والمعضلة ليست فقط في محدودية الوظائف كما يُشاع بل هناك خلل أعمق بكثير يعتمد على نوعية المهارات التي يمتلكها خريجونا وبينما يدور العالم بسرعة فائقة حول اقتصاد المعرفة والتحول الرقمي ما تزال أنظمتنا التعليمية في كثير من بلادنا تسير ببطء حاملةً عبء مناهج عفى عليها الزمن تغني للنظريات بصوت عالٍ لكنها تهمس خجلاً حين يُطلب منها تدريباً عملياً لصقل المهارات العملية وكأن الجامعات تعيش في زمن موازٍ غير الزمن الذي تدور فيه عجلة الاقتصاد والتكنولوجيا
اضطرابات المهارات الخلل الذي لا نراه ويعطل المستقبل
هل سمعتم بمصطلح اضطراب المهارات قد يبدولكم غريبًا للوهلة الأولى لكنه يصف بدقة فجوة متنامية بين مخرجات التعليم واحتياجات سوق العمل الفكرة بسيطة في ظاهرها لكنها تنطوي على خلل هيكلي معقد ففي الوقت الذي تستمر فيه الجامعات بتخريج آلاف المتخصصين في مجالات تقليدية تجاوزها السوق أو تشبّع بها تصرخ قطاعات جديدة وحديثة بحثًا عن كفاءات نادرة تمتلك مهارات العصر التفكير التحليلي إدارة البيانات الذكاء الاصطناعي وإتقان اللغات الأجنبية
هذا الاضطراب لا يتمثل فقط في اختلال العرض والطلب بل يتغلغل في عمق أنظمتنا التعليمية في غياب التنسيق المؤسسي بين الأكاديميا والاقتصاد وفي العزلة التي يعيشها التعليم عن التحولات التقنية والمهنية السريعة النتيجة جيوش من الخريجين العاطلين وشركات عاجزة عن إيجاد موظفين مؤهلين واقتصادات تدور في حلقة مفرغة من بطالة مع وجود فرص شاغرة
ولكن هنالك مفارقة صادمة وظائف شاغرة تتوسل من يشغلها
تخيلوا معي وظيفة مسؤول علاقات المستثمرين في إحدى الشركات الكبرى منصب حيوي يجمع بين المهارات المالية الدقيقة والكتابة الاحترافية والإلمام القانوني والقدرة على التواصل المؤثر لكن ابحث في أي جامعة عربية عن خريج مُعد خصيصاً لهذا الدور ستعود صفر اليدين ويعجز النظام التعليمي عن رسم مسارات تدريبية حقيقية تلتقط ما تناثر من مهارات وتصقلها في قالب عملي واحد والنتيجة تظل الوظائف تنتظر من يشغلها والخريجون ينتظرون من يمنحهم فرصة وبين الانتظارين تضيع الكفاءة تلك القطعة الناقصة التي لم يهتم أحد بتشكيلها كما يجب
وظائف العصر تبحث عن أبطالها الضائعين
وظائف هذا العصر ليست مجرد مسميات جديدة على لوحات الإعلانات إنها نبض الاقتصاد الحديث وجوهر تحولات العالم من حولنا من محللي البيانات الذين يقرأون الأرقام كما تُقرأ الحكايات إلى خبراء تجربة المستخدم الذين يصنعون الراحة في كل نقرة ومن محللي الاستدامة الذين يحمون الكوكب من قلب المؤسسات إلى المسوقين الرقميين الذين يعرفون كيف تصل الفكرة إلى القلب قبل الشاشة مديرو المنتجات التقنية وحماة الأمن السيبراني ومهندسو سلاسل الإمداد وعباقرة الذكاء الاصطناعي وحتى أخصائيو الموارد البشرية بمهاراتهم المتجددة كل هؤلاء يشكلون العمود الفقري لعالم لا يتوقف عن التغير لكن المفارقة أن هذه الوظائف بكل أهميتها لا تجد من يشغلها كما يجب الأبطال الذين تنتظرهم تاهوا في زحام مناهج لا تعرف المستقبل وتبقى شاغرة أو تُسند إلى غير المؤهلين وتُدار بكفاءة منقوصة
جذور الأزمة قطاران على سكة لا تلتقي
كيف وصلنا إلى هذا المفترق ببساطة لأننا سمحنا لعالمين أن يمضيا جنبًا إلى جنب دون أن يتقاطعا التعليم يسير في مساره الخاص يحلق في نظريات ومفاهيم بينما سوق العمل يركض في اتجاه آخر يلهث وراء كفاءات جاهزة ومهارات حقيقية لا جسور متينة بين الجامعات والشركات لا خارطة واضحة ترشد الطالب منذ أول يوم إلى مهنته المستقبلية فقط الكثير من التلقين والقليل جدًا من التمرين أما التدريب العملي فإما غائب أو شكلي والمبادرات التي كان يمكن أن تربط الأكاديمي بالمهني نادرة ومتعثرة وهكذا تكبر الفجوة عامًا بعد عام وتزداد الحيرة في عيون الخريجين وكأنهم أعدّوا لسباق لم يعرفوا أبدًا طريقه
الأردن الأزمة بوصف أوضح وأقسى
في الأردن الفجوة بين التعليم وسوق العمل لا تبقى مجرد أرقام على الورق بل تتحول إلى قصص واقعية وحكايات يومية تقول بيانات منظمة العمل الدولية إن البطالة بين الشباب تتجاوز 46 في المئة في فئة 15 إلى 24 سنة ويفشل أكثر من نصفهم في الوصول إلى عمل مستقر بعد التخرج و52 في المئة منهم يبحثون أول مرة عن وظيفة
المفارقة الكبرى أن النظام التعليمي يخرّج سنويًا آلاف الشهادات لكن الجامعات تمتلئ بتخصصات مشبعة بينما تبقى الوظائف المرتبطة بالتقنيات والمهارات الرقمية شاغرة يحتاج السوق اليوم إلى مبرمجين مبدعين محللي بيانات يترجمون الأرقام إلى رؤى خبراء أمن سيبراني يحرسون الفضاء الإلكتروني ومهندسي سلاسل إمداد ذكية لكن معظم الخريجين لا يمتلكون هذه المهارات
نعم ظهرت مبادرات ومراكز تدريب لكن تأثيرها يظل محدودًا معظمها لم يخرج بعد عن دائرة التجارب الجزئية بلا رؤية استراتيجية أو تقييم للمخرجات في الأردن المطلوب ليس تحسينات سطحية بل خطة وطنية شاملة تبدأ بجعل معايير السوق إطارًا للمنهاج وتعمّق المناهج وتربط الدراسة بساحات العمل من اليوم الأول
فالخطة يجب أن تصنع جسور توصِل طلاب الجامعة بالوظيفة وتزرع فيهم أن المهارة ليست خيارًا بل شرط للبقاء وهذا التحوّل رغم صعوبته أصبح ضرورة لأن الإبقاء على الوضع الراهن يعني ضياع جيل بأكمله وطلاقًا مستمرًا بين الشهادات والأبواب المغلقة
كيف نُصلح ما انكسر الطريق ليس مستحيلاً
صحيح أن الفجوة واسعة والخذلان عميق لكن الإصلاح ليس حلمًا مستحيلاً كل ما نحتاجه هو إرادة جادة ورؤية تعرف إلى أين تتجه وشجاعة تبدأ التغيير من جذوره
المناهج أولاً لا بد من ثورة
علينا أن نتوقف عن ترميم القديم ونبدأ بهدمه لإعادة البناء المناهج لا يجب أن تكون حشو معلومات بل مرآة لما يطلبه سوق العمل اليوم وغدًا يجب أن تتحرر من جمودها وتكتسب المرونة لتتجدد كما يتجدد العالم
التدريب العملي ليس خيارًا بل حياة
لا يكفي أن يزور الطالب ميدان العمل مرة واحدة قبل التخرج لا يكفي أن يُطلب منه تقريرٌ في الصيف يجب أن يعيش الواقع المهني منذ خطوته الأولى في الجامعة يختبر يخطئ يتعلم ويكبر
الشراكات الحقيقية تبدأ من الثقة
الجامعات ليست جزرًا معزولة ولا الشركات أبراجًا مغلقة العلاقة بينهما يجب أن تكون علاقة مصير فيها تبادل حقيقي لا شعارات تدريب جاد توجيه صادق ومسارات وظيفية واضحة تحترم طموح الطالب وتقدّر حاجة السوق
مبادرات وطنية ذكية لا مسكنات مؤقتة
علينا أن نُطلق برامج تدريب مرنة تُعيد تأهيل من ضلوا طريقهم وتُمسك بيد القادمين الجدد قبل أن يقعوا في ذات الفجوة برامج تعترف أن الشهادة وحدها لم تعد تكفي وأن المهارة هي جواز السفر الوحيد في عالم سريع التغيّر
وختامًا
أود أن أؤكد أن المهارات هي عملة العصر التي لا تنخفض قيمتها أبدا لقد تغير العالم من حولنا لم تعد الشهادة وحدها جواز مرور مضمونًا إلى مستقبل مهني مشرق ولقد تعب الشباب من انتظار فرص لا تأتي وتعبت الأسواق من البحث عن كفاءات لا تجدها ومن نقص في المهارات نحن أمام لحظة فاصلة تتطلب شجاعة في إعادة صياغة العلاقة بين التعليم والعمل الإصلاح لا يبدأ من قرار بل من إيمان بأن لكل طالب حقًا في مستقبل يليق بتعبه ولكل وظيفة حقًا في من يشغلها بكفاءة
إذا مشينا هذا الطريق معًا جامعات شركات حكومات وأفراد لن يبقى التعليم عبئًا بل يصبح وعدًا حقيقيًا بمستقبل نملكه نحن لا تنتظره الأجيال القادمة عبثًا على أرصفة المجهول