اضاءات

س و ص 10″ اللواء والجنة “

ديرتنا – عمّان – كتب رياض غوشة

كان “س” جالسًا في قاعة الانتظار بدائرة قاضي القضاة، يراقب الأرقام التي تظهر على الشاشة المعلقة، ويقارنها بالرقم الموجود على بطاقته. يتنقّل بنظره بين تلك الشاشة ووجوه المراجعين حوله، وقد أصبحت لديه هواية تأمل وجوه الناس والتفكّر في إبداع الخالق: كيف لمجموعة محدودة من المكوّنات (وجه، عينان، أذنان، أنف، فم، و رأس) أن تُنتج هذا الكم الهائل من الاختلافات بين البشر.
من بين تلك الوجوه، لفت نظره وجه “ص”. رجل يبدو مختلفًا، يمتلك نورًا خاصًا ينعكس على شعره القصير وذقنه الحليقة، وعينيه البراقتين. على الرغم من تقدّمه في العمر، فإن بنيته الرياضية وملابسه النظيفة المكوية بألوانها الهادئة، كانت تشير إلى مكانة مميزة.

في تلك اللحظة، خرج شاب وفتاة برفقة والديهما من مكتب القاضي، تبدو الفرحة على وجوههم. من ملامحهم، يُفهم أنهم أنهوا إجراءات عقد الزواج. اقترب منهم “ص” حاملاً حقيبة رياضية كانت موضوعة بين قدميه، صافحهم وعرّف بنفسه، بارك لهم، وتحدّث معهم لبضع دقائق، ثم أهدى لهم كتابًا من حقيبته واستأذن عائدًا إلى مقعده.

بعد أن أُنجزت معاملة “س” وتوجه نحو باب الخروج، مرّ بجوار “ص”، فتوقف لبرهة، ثم عاد أدراجه وجلس بجانبه، مدّ يده وقال: “أستسمحك عذرًا… لقد غلبني فضولي. أودّ أن أتعرف عليك، وأتعلم منك ما تقوم به.”

ابتسم “ص” ابتسامة مريحة وقال:
“أنا اللواء المتقاعد “ص”. طبيعة رتبتي ومكانتي الاجتماعية جعلتني أترأس العديد من الجاهات التي تتقدّم لخطبة الشباب والفتيات، خصوصًا ممن أعرفهم أو أعرف ذويهم. ومع مرور السنين، صار الناس يلجؤون إليّ أيضًا عندما تهبّ رياح الخلافات في البيوت. أصبحت وسيط خير لإصلاح ذات البين. لكنني حزين لأنني رأيت كثيرًا من البيوت تتهاوى لأسباب تافهة، وخصوصًا حين يكون في الوسط أطفال صغار. المؤسف أن أهل الزوجين – في كثير من الأحيان – يزيدون الطين بلّة، ويصبّون الزيت على النار، فيشجعون على الطلاق بدلًا من الصلح.”
سكت قليلًا، ثم تابع:
“بحثت عن الأسباب الحقيقية. تحاورت مع الأزواج والزوجات، فوجدت أن هناك فجوة عميقة بين النوايا المُعلنة والنوايا الخفية، وأن كثيرين يجهلون الهدف الحقيقي من الزواج. بعض الشباب اليوم يدخل الزواج كمن يعبر جسرًا للخروج من ضيق الحياة إلى سعة العيش، أو من قسوة الأهل إلى مغامرة الحرية، أو كوسيلة للحصول على وظيفة أو فرصة سفر، أو حتى كمجرد وسيلة لتحقيق رغبة أو امتلاك شريك مثالي. وعندما يتحقق الهدف… يُصبح الشريك بلا فائدة، وإن لم يتحقق، تبدأ المشكلات لأتفه الأسباب.”

كان “س” يستمع بكل اهتمام، وحين توقف اللواء لالتقاط أنفاسه، سأله:
“وما الحل الذي توصّلت إليه؟”
أجاب “ص”:
“الحل بحاجة إلى جهود جماعية ومن جهات مختلفة، لكنني شعرت بمسؤولية شخصية بأن يكون لي دور في الحل. فوضعت لنفسي هدفًا بسيطًا: إنقاذ ولو أسرة واحدة. و ركزت على نقطتين:
الأولى هي مفهوم الأمانة. كل زوج وزوجة، حين يُبرمان عقد الزواج، يتسلّمان أمانة. كل منهما أمانة في عنق الآخر، والأبناء لاحقًا أمانة لديهم أيضًا، سيسلّمونهم الى عش الزوجية في يوم من الأيام كعروس أو عريس.

أما النقطة الثانية، فهي الهدف الحقيقي من هذه الحياة: الفوز بالجنة. يجب على الزوجين أن يتعاونا ويصبرا ليعبروا معًا هذا الامتحان، ويبلغا الفردوس الأعلى.”
علق “س”:
“والله كلام عظيم… لكن تحقيقه في أرض الواقع صعب!”
ضحك اللواء وقال:
“أعلم… ولذلك ألّفت هذا الكتاب.”
أخرج من حقيبته كتيبًا وأعطاه لـ”س”، وقال:
“عنوانه (الفوز بالجنة… الهدف الحقيقي, حيث لا عين رأت, ولا أذن سمعت, ولا خطر على بال بشر)، أردت من خلاله أن أطبع في القلوب صورة عن الجنة، تجعل مغريات الدنيا تافهة أمامها. وبما ان ما في الجنة لم يخطر على بال بشر, فذلك يعني أن كل ما يخطر يمكن أن يكون هناك. استعنت بالذكاء الاصطناعي للبحث في أوثق المراجع عن الذين يدخلون أبواب الجنة الثمانية، وما كانوا يتخيلونه عنها. وطلبت منه ان يحصر ملذات الدنيا وزينتها وكيف ستكون وأوصافها في الجنة، وكل ما قد يتخيّله الإنسان من نعيم. حاولت تبسيط المعلومات دون أن أفقد عمقها، وساعدتني ابنتي في التصميم، وأبن صديق لي لواء متقاعد أيضا ساعدني بطباعة النسخ.”

وقف “س” وقد بدا التأثر واضحًا عليه، وقال:
“لقد أنقذت أسرة اليوم… أسرتي. كنت قد قررت تطليق زوجتي، وسجّلت المعاملة، لكن حديثك أنار بصيرتي. سأمزّق تلك الأوراق، وأبدأ من جديد… وأرجو أن يهديها الله كما هداني، وسخّرك لي.”

رياض غوشه
22 يوليو 2025
فيسبوك: العودة للوطن – رياض غوشه

زر الذهاب إلى الأعلى