من مهرجان جرش وحضور السودان..القضاة تكتب عن السارة والنوباتونز… حين تعزف الذاكرة على وترٍ نوبيّ – فيديو

خاص لـ ديرتنا – مهرجان جرش 2025 – كتبت رحاب القضاة
بدعوة كريمة من إدارة مهرجان جرش للثقافة والفنون،حضر سفير جمهورية السودان في الأردن الأستاذ حسن صالح سوار الذهب ، إلى المسرح الجبلي في جرش، ليشهد لحظةً فارقة في حضور السودان الثقافي والموسيقي.
رحّبت به فرقة “السارة والنوبان”، كما رحّبت به القلوب قبل الكلمات واحتفت به إدارة المهرجان في لحظة امتزجت فيها الدبلوماسية بالفن وارتفعت فيها راية السودان لا عبر السياسة فحسب بل عبر الإبداع النابض بالحياة.
في المساء الثقافي المميز بمهرجان جرش للثقافة والفنون في دورته الـ 39، وقفت “السارة” تحت أضواء خشبة المسرح كأنها ليست مغنية بل ظلّ وطنٍ يمشي.
صوتها كان لا يغني فقط، بل يندب، يرقص ويعتذر عن كل ما فعله العالم بالسودان وبالهوية، وبالذاكرة.
كانت ترتدي ألوانًا تشبه النيل قبل المغيب وتغني كما لو أنها تحاول أن تلملم ما تبقّى من تاريخٍ كان يُغنّى على الضفاف ثم صمت. جمهورها لم يكن فقط يستمع، بل كان يشهد على ولادة جديدة لموسيقى نُسيت على أطراف الخريطة وها هي تعود… لا كحنينٍ فقط بل كصرخة.
وُلدت “السارة” في الخرطوم، ورحلت منها باكرًا كمن يُنتزع من جذره.
اليمن احتضنتها مؤقتًا، ثم نيويورك… وهناك، في بروكلين، لم تكن تبني حياة جديدة بل كانت تعيد ترميم حياة قديمة بصوتها وأغانيها وذكرياتها النوبية.
أسست فرقة “السارة والنوباتونز” عام 2010 وكأنها تقول: “إذا لم يُنقذنا أحد فلننقذ أنفسنا بالموسيقى”.
جمعت حولها شقيقتها نهاد وعازفين من ثقافاتٍ متقاطعة وبدؤوا في إحياء ما تبقّى من نغم نوبي ممزوج بالبوب والهيب هوب، والشرقي، والحنين.
أغانيها ليست فقط موسيقى، بل أرشيف شفوي من وجع المنفى وأمل العودة، وإيمان الجذور. من “سوكورا” إلى “سلام نوبيا” مرورًا بـ”عيان تعبان” و”نوبا نوتو” و”المنارة” كل أغنية تبدو كأنها صلاة خافتة على قبر الهوية ثم تنهض وتغني كأنها لم تُدفن.
حين يصبح المسرح خيمة عزاء وحفل ميلاد
من الكويت إلى باريس، من السويد إلى بيروت، من المغرب إلى الأردن تجولت الفرقة ليس كفرقة موسيقية بل كسفراء لجراح لم تلتئم وأغانٍ كانت تموت بصمت.
في حفلاتهم لا ترى جمهورًا فقط، بل ترى وجوهًا تشبهك، تصفق كأنها تمسح دمعة.
يتداخل في الأغاني الطرب مع التكنو، والنوبي مع الإلكترونيك، كأن كل هذه التناقضات وجدت في “السارة” ملجأً مؤقتًا.
هي لا تُغني للحب فقط بل للمطر الذي لم يهطل للقرى التي غمرها السد
للعشاق الذين افترقوا على حدود لا يعترفون بها، ولأمٍّ تنادي ابنها في الأغنية ثم لا يأتي.
أن تكون نوبياً… أن تغني وأنت تمشي على رماد
“السارة والنوباتونز” ليست مجرد تجربة موسيقية بل هي مقاومة ناعمة ضد المحو.
إنها محاولة لأن نقول للعالم: نحن ما زلنا هنا، رغم التهجير، رغم الحرب، رغم النسيان.
فرقتهم ليست ترفًا فنيًا بل مشروع بقاء كل نغمة فيها هي صرخة ضد الصمت، وحضنٌ صوتيّ لوطن فقد حدوده لكنه لم يفقد صوته.
وحين غنت “يا ناس بريدو”، لم يكن ذلك فقط للمحب بل لكل من بقي يحب وطنًا يحترق، وهو عاجز عن إنقاذه.
ربما لا نعرف متى تعود السارة إلى نيلها الأول وربما لن تعود أبدًا.
لكن الأكيد أنها أخذت نيلها معها، غنّته في العواصم، وأعادته حيًا في الأغنية.
وعلينا فقط أن نصغي…
فبعض الأغاني ليست للرقص بل للبكاء النبيل