
ديرتنا – مهرجان جرش 2025 – تقرير رحاب القضاة
لم تكن فرقة “أوكتاف” مجرد مجموعة موسيقية تصعد على المسارح لتؤدي بعض الأغاني.
هي من خفقة قلب أمٍّ تنتظر من تنهيدة عاشق في المخيم من لهفة جنديٍ عاد ولم يجد مَن ينتظره. هناك حيث الموسيقى تُعزَف على أوتار القلوب لا الآلات فقط وُلدت “أوكتاف”…
هذه الفرقة لا تغني بل تُفجِّر الذاكرة.
أغانيها ليست لحناً عابراً بل طقوسًا للبوح والاحتراق.
تتقن الغناء الشعبي كمن يروي سيرة الجدّات في البيوت الطينية، وتغني الوطن كما لو كانت تدق أبواب المدى وتنادي على غائبٍ لن يعود.
الجنون المشروع: كيف تصرخ فرقة أوكتاف؟
حين يغني أعضاء “أوكتاف” يحدث شيء غير منطقي…
كأن المسرح يتحول إلى حقل ألغام من الذكريات.
يتحرك الجمهور بلا وعي يصفّق لا على الإيقاع بل على وجع يشبههم.
في أغنيتهم “يا أبو ردين” – تلك المرثاة المتخفية بهدوء شعبي – لا يسمع الناس مجرد حكاية، بل يعيشون خساراتهم كلها دفعة واحدة
تقول الأغنية: “يا أبو ردين ليه الطريق ما بيودّي؟” وكأنها تسأل عن كل الذين غادروا دون أن يلوّحوا عن كل الذين ظلوا واقفين على رصيف الانتظار رغم أن القطار لن يأتي.
حين تُغني “أوكتاف”… الوطن يصرخ من بين الأصوات
فرقة “أوكتاف” تتقن سرقة النبض، ليس لتحتفظ به بل لتعيده أكثر صدقًا.
تغني للوطن لا كخريطة بل كجُرح مفتوح.
تغني للناس لا كمستمعين بل كأرواحٍ تُكمل معها الغناء.
هم لا يقدمون حفلاً بل يقيمون عزاءً موسيقيًا في كل مرة ونهاية كل عزاء تبدأ برقصة أو تصفيق…
كأن الحزن في عالمهم لا يُبكى عليه بل يُغنى له.
في مهرجان جرش حين اعتلى أعضاء الفرقة المسرح لم يعتلوا الخشبة وحدهم.
صعد معهم تاريخ طويل من التقاليد الشعبية وملاحم الفلاحين، ووجع اللجوء، وفرح الغلّة الأولى.
“أوكتاف” ليست مجرد فرقة.
إنها خلية مشاعر تمشي في الأزقة، وتغني للذين لا صوت لهم وتُعطي كل شهقةٍ لحنًا وكل غصةٍ نغمة.
وأخيرًا…
في زمنٍ يمشي فيه الفن على رؤوس الأصابع كي لا يُزعج أحدًا، تأتي “أوكتاف” لتكسر الصمت.
تغني لأن السكوت خيانة ولأن الموسيقى آخر ما تبقّى للناس حين يخذلهم الكلام.