
ديرتنا – مهرجان جرش للثقافة والفنون – كتبت رحاب القضاة
“حبيبي تعال نتلم”… حين يُصبح الريد في الوريد …. والوطن في الغياب
في زاوية ما من هذا الكون هناك صوتٌ سودانيّ مبحوح فرقة السارة غنتها على المسرح الشمالي لجرش يغني لا ليسلّي بل ليبقى.
في أغنية “حبيبي تعال نتلم” لا أحد يرقص… بل الجميع ينزف.
الأغنية ليست فقط عن الحب بل عن حنينٍ هائم حبٍّ تهشّم وفقدٍ يمتد كالنيل من أقصى القلب إلى المنفى.
حبيبي تعال نتلم
مدام الريد اختلط بالدم
أنا ذنبي إيه؟ شيلوني الهم…
اللقاء في هذه الكلمات ليس لقاء عاشقين في مقهى صغير بل هو استغاثة وجودية.
أن “نتلم” يعني أن نرتق هذا الشتات، أن نعود من التيه. لكن هذا الحب، هذا الريد اختلط بالدم… لم يعد نقيًا صار يشبه النكبة. هو حبّ تلوث بالحروب، بالخذلان، بالمنفى.
يا للسكّر حين يُغني وسط الحطب
حبيبي المنقا والتفاح
حبيبي عسل والناس مساخ
بهاجر ليك عشان ارتاح…
الحبيب هنا ليس إنسانًا فحسب بل هو فكرة الهروب من القبح… هو أرض الحلاوة في عالم من المرّ. تقول الأغنية: الناس “مساخ” أي قساة، باهتون، باردون بلا طعم. لكنه – هو – عسل.
الحبيب هنا مرآة النجاة، وجه البلاد التي لم تُخدش.
والهجرة لأجله ليست هروبًا بل عودة.
كأنك تترك العالم لتذهب إليه، لأنك لا تنتمي إلا لصوته… لصدره… لوجوده.
بستناك أنا في البحر
محل الطير هاجر رحل
انت من هنا ولا من زحل؟
انظري إلى هذا السؤال السريالي: “انت من هنا ولا من زحل؟”
إنه ليس استفهامًا عاديًا بل اندهاش تام من نقاءٍ لم تعتده الأرض.
هذا الحبيب غريب حلو بشكل لا يشبه من حوله. كأنّ الحبّ صار كائنًا فضائيًا لا يعيش إلا بعيدًا… في زحل. في مكان لا تبلغه الحروب ولا الهموم.
وعد على الكُبري… وتهجير نحو لندن
بستناك أنا في الكبري
بضحي ليك أنا بي عمري
عشان وحيد وسحبو مني…
هنا يكمن النصل.
الكبري ليس مجرد جسر، بل رمز الانتظار… رمز العبور الذي لا يكتمل. هو وعد لا يأتي.
والضحية لم تكن الحب فحسب، بل العمر بكامله. وذاك “الوَحيد”، الذي سُحب كأنّه الروح… الحبيب… الوطن… الأمان.
نسكن لندن عمارات فوق
عشان خاطر حبيبو الذوق…
المنفى حاضر.
حتى في لندن، حيث ناطحات الحنين…. ما تزال الروح تبحث عن الذوق… عن ذاك الحبيب الذي إن ضحك أذاب شتاء الغربة.
أغنية من قلب سوداني مشقوق
“حبيبي تعال نتلم” ليست مجرد أغنية عاطفية، بل هي هجينيّة سودانية ممزوجة بالغربة، والحبّ، والخسارات الصغيرة المتراكمة. فيها الحسّ الشعبي العذب، والعمق الوجداني الحارق.
كأنها حوار بين عاشقٍ ما زال يجرّ قلبه خلفه، ووطنٍ ما عاد يشبه نفسه.
هي نشيد من لا بيت لهم ولا كتف، ولا حضن… سوى الأغنية.