القضاة تكتب: خدمةُ العلم في الأردن: سياسةٌ لإعادة صوغ العقد الاجتماعي على قاعدة أن «الشباب ثروتنا»

خاص لـ ديرتنا – عمّان – كتبت رحاب القضاة :
ليس إعلانُ سموّ وليّ العهد الأمير الحسين بن عبدالله الثاني قُربَ إعادة تفعيل خدمة العلم مجرّد قرارٍ تنظيمي إنّه اختيارٌ سياسي يضع الشباب في قلب معادلة الدولة الأمنُ هويةٌ منضبطة والهويةُ مهارةٌ منتِجة والمهارةُ اقتصادٌ قادر على الصمود.
في جوهر الرسالة: رأس مال الأردن الحقيقي هو شبابه والاستثمار فيهم ليس شعارًا تعبويًا بل سياسة عامة تُقاس بمؤشرات إنجاز وتُترجم إلى فرصٍ ملموسة في الحياة والعمل.
المعنى السياسي… من «التعبئة» إلى «التنمية»
تُعيد خدمة العلم تعريف الوطنية بوصفها سلوكًا عامًا لا شعارات من انضباط الوقت، احترام القانون، والقدرة على العمل ضمن فرقٍ متنوعة من مختلف المحافظات. هذه ليست فوائد “أخلاقية” فحسب إنها بناءٌ منهجيٌّ لـرأس مال اجتماعي يرمّم الثقة بين المواطن ومؤسساته ويجسر الفجوات الجغرافية والطبقية عبر تجربةٍ مشتركة توحّد الهدف.
بهذا المعنى تتحول الخدمة إلى أداة لصوغ عقد اجتماعي جديد:
دولةٌ تضمن تدريبًا نوعيًّا مسارات مهارية معتمدة وحوافز عادلة.
مواطنٌ يردّ بالجاهزية والمسؤولية والعمل العام فيكسب مكانته لا بالاستحقاق الورقي بل بالإسهام الفعلي.
سياسيًّا هذا استثمار في شرعية الإنجاز حين تُرى نتائج الخدمة في الانضباط المدني وانخفاض البطالة بين الشباب وارتفاع معدلات التطوّع والاستجابة للطوارئ تتعزّز الثقة وتشتدُّ الحصانة الداخلية في بيئةٍ إقليمية مضطربة.
مثلّث الأثر—هويةٌ وانضباطٌ ومهارة
هويةٌ تُمارَس لا تُلقَّن الاحتكاك اليومي تحت سقفٍ واحد يخفّض التوتّرات ويصنع سرديةً مشتركة حول الواجب والكرامة.
انضباطٌ مدني الدقّة إدارة الوقت تحمّل المسؤولية وثقافة الفريق—كلّها تتحوّل من قيَمٍ مرغوبة إلى عاداتٍ مكتسَبة.
مهارةٌ قابلة للتشغيل القيمة التي تحسم مستقبل البرنامج هي المسارات التطبيقية.
حدُّها الأدنى تدريبٌ عسكريٌّ أساسي وحدُّها الأعلى شبكاتُ تدريبٍ مدنيّ—تقني ومهني—تُغذّي الاقتصاد في القطاعات الأكثر حاجة.
كيف تتحوّل الخدمة إلى منصّة عمل لا محطة عابرة؟
لتحقيق أثرٍ مستدام يُبنى البرنامج على ممرٍّ مهاري واضح المعالم:
مسارات تخصصية ذات جدوى وطنية الإسعاف الميداني وإدارة الكوارث اللوجستيات وسلاسل الإمداد الطاقة والمياه والبيئة الأمن السيبراني والتحوّل الرقمي الحِرَف والصناعات الصغيرة.
اعتمادٌ وشهادات كلّ ملتحق يغادر الخدمة ومعه شهادة كفاءة معترف بها ومحفظة مهارات تبيّن ما أتقنه عمليًا.
شراكات ثلاثية القوات المسلحة وزارات العمل/التربية/التخطيط القطاع الخاص بوابات تدريب ميداني تؤدي مباشرةً إلى عقود تشغيل للخريجين الأكثر انضباطًا وكفاءة.
حوافز ذكيّة مكافآت مرتبطة بالأداء نقاط أولوية للتوظيف العام ومسارات من الخدمة إلى ريادة الأعمال عبر برامج تمويلٍ متناهٍ الصغر لمن يُظهرون مبادرة وانضباطًا.
بهذا التصميم تصبح الخدمة جسرًا بين الواجب والفرصة من ساحات التدريب إلى خطوط الإنتاج ومن الانتماء الشعوري إلى قيمةٍ اقتصاديةٍ مضافة.
مكاسب الأمن القومي… احتياطٌ مُدرَّب ونسيجٌ متماسك
الأمن هنا ليس “عسكرة المجتمع” بل مدنيّة الأمن مواطنون، تدريبيًّا قادرون على دعم الدولة في الأزمات—سيول حرائق أوبئة انقطاعات حيوية—مع فهمٍ مؤسسيٍّ لقيادة الميدان وسلسلة الأوامر.
وبمقدار ما يتعزّز الاحتياط المُدرَّب بمقدار ما تنخفض كلفة الطوارئ وترتفع سرعة الاستجابة.
وفي العمق يتماسك النسيج الوطني لأن التجربة المشتركة تخلق لغة تضامنٍ عملية لا وعظًا أخلاقيًّا.
معايير قياس النجاح (لئلّا يظلّ الكلام جميلًا فقط)
نسبة توظيف خريجي الخدمة خلال 6–12 شهرًا.
مؤشرات الانضباط المدني الحضور الالتزام سلامة السلوك العام في الخدمة وما بعدها.
ساعات التطوّع والإسناد المجتمعي لكل مشارك.
شهادات الاعتماد ومعدّل اجتياز الاختبارات المهنية.
رضا الشركاء (القطاع الخاص/البلديات/الدفاع المدني) عن جودة المخرجات البشرية.
تحويل هذه المؤشرات إلى لوحة متابعة وطنية يرسّخ ثقافة التقييم والمساءلة ويضاعف الأثر.
ماذا سيتبدّل حين تُفعَّل الخدمة؟
سترى العائلات أبناءها يعودون بملامح مختلفة ثقة هادئة، لغة فريق، وبداهةُ مبادرة.
سترى البلديات والهيئات التطوعية طاقةً بشريةً مُدرَّبة تدخل المشهد المحلي.
وسترى الشركات مسارًا توظيفيًّا يختصر الطريق شابٌ تعلّم الانضباط تحت الضغط يَعرف السلامة المهنية ويملك مهارةً موثّقة.
وعلى المدى المتوسط تتكوّن كتلة شبابية ذهنيتها “واجبٌ ثم فرصة”—وهذه هي الثقافة التي تبني اقتصادًا منتجًا ودولةً مرنة.
ختاماً: رؤيةٌ تُحوِّل الشعار إلى سياسة
جوهر ما يطرحه سموّ وليّ العهد أنّ الشباب ثروة لا تُختزل في الأرقام الديموغرافية بل تُصاغ قدراتٍ قابلة للاستخدام عبر خدمةٍ تعلّم وتُهذِّب وتُمكِّن.
بإعادة تفعيل خدمة العلم على هذا الأساس لا يستعيد الأردن برنامجًا قديمًا إنّه يضع معادلة جديدة للشرعية والإنجاز هويةٌ تُمارَس، انضباطٌ يُترجَم، ومهارةٌ تُثمَّر.
وحين تتضافر هذه العناصر ينتقل البلد من إدارة اليوميات إلى صناعة المستقبل—مستقبلٍ يحرسه شبابٌ متسلّحون بالانتماء والمعرفة يَعرفون أن الكرامة تبدأ من الواجب… وأن الاستثمار الأذكى هو الاستثمار فيهم.