الشهيد الشاهد: صرخة ضمير الكون

ديرتنا – بقلم زياد فرحان المجالي- أنا عبد الله… الطفل الذي صرخ أمام الكاميرات، ورآني العالم كله، ثم مات جسدي جائعًا في تركيا.
لكن موتي لم يُغلق القصة، بل فتح محكمة كبرى، محكمة يشهد فيها جسدي الصغير على خيانة الضمير البشري. صرختي التي التقطتها عدساتكم لم تكن تخصني وحدي، بل كانت صرخة كل طفل في غزة، كل جائع تحت الحصار، كل صغير يختبئ من القصف بلا دواء ولا خبز.
رأيتموني حيًّا أقاوم الجوع، ثم تركتموني أموت على الهواء. أي عالم هذا الذي يبيع شعارات “حقوق الطفل” على قمصان ودمى ملوّنة، بينما يُشيّع الأطفال الحقيقيون بلا كفن؟ أي فقر هذا؟ إنه ليس فقر المال، بل فقر النخوة عند العرب، فقر العدالة عند العالم، فقر الرحمة في قلوبكم جميعًا.
قال علي بن أبي طالب: “لو كان الفقر رجلًا لقتلته”. واليوم أقول: لو كان الفقر رجلًا، لكان في غزة طفلًا محاصرًا، يصرخ حتى ينقطع صوته.
ولو كان الفقر رجلًا في عواصمكم، لكان وزيرًا تُزيّنونه بالألقاب، بينما يُدفن الأطفال بلا أسماء. أنتم الذين أنرتم قاعات مؤتمراتكم بالأنوار، تركتم نور الحقيقة يسطع من عيون الأطفال الجائعين.
أنتم الذين تحدثتم عن التنمية والسلام، لم تسمعوا صرخات غزة التي كتبت بدمها: “الجوع أقسى من القصف… والفقر يقتل قبل الصواريخ.
” أنا عبد الله… لم أرحل عبثًا. أنا الملاك الصغير الذي يقف شاهدًا عليكم: على الأمم المتحدة التي لم تتحرك، على منظمات حقوق الطفل التي لم تحم طفولتي، على الدول العربية التي اكتفت بالبيانات، وعلى إنسان غربي اشترى قميصًا بشعار “أنقذوا الأطفال” لكنه لم يرَ صورتي أمام الكاميرا.
لا تجعلوني أُدفن مرتين: مرة تحت التراب، ومرة أخرى في ذاكرتكم الميتة. صرختي أمام الكاميرات لم تكن مشهدًا عابرًا، بل سيفًا في وجوهكم. في غزة اليوم، كل طفل هو عبد الله,كل صرخة جوع هي نور يفضح ظلمكم, كل براءة تُدفن هي شاهد جديد على إنسانيتكم الزائفة.
أنا عبد الله… رأيتم صرختي، سمعتم موتي، وما زال أطفالي في غزة أحياء يصرخون: “نحن جوعى… نحن نُدفن على الهواء مباشرة.
” وفي زمنٍ يثقل فيه الصمت على الضمائر، تأتي غزة لتكتب بدمائها رسالةً لا تُمحى. رسالة تتجاوز حدود المكان والزمان، تخاطب ضمير الكون كلّه، وتضعه أمام امتحان الإنسانية: هل ما زال العالم حيّ الضمير؟ أم أنه غرق في وحل العجز والتواطؤ؟ كل طفل في غزة شهيد، وكل أمّ صابرة شاهدة، وكل بيتٍ مهدوم وثيقة حيّة على وحشيةٍ تُمارَس في وضح النهار.
إنّ صرخة عبد الله، ذلك الملاك الذي رحل، لم تكن صرخة فردٍ عابر، بل صرخة الإنسانية كلّها وهي تُذبح في غزة. هذه الصرخة لم تُوجَّه فقط إلى الاحتلال الذي يبطش بلا رحمة، بل إلى المؤسسات الدولية التي تدّعي حماية الطفولة وحقوق الإنسان.
فما قيمة شعاراتهم حين يُترك أطفال فلسطين بلا مأوى ولا دواء ولا أمان؟ وما جدوى اتفاقياتهم حين تصبح البنود أوراقًا مهترئة أمام أول صاروخ يسقط فوق أسرة نائمة؟ إن غزة اليوم لا تطلب صدقة من العالم، بل تطلب حقها في الحياة، ووقفة ضمير صادقة تعيد تعريف الإنسانية.
فكيف يُسمح بقتل الطفولة، ثم يُقال إن القانون الدولي قائم؟ وكيف يُذبح شعب أمام الشاشات، ثم يُقال إن الضمير العالمي مستيقظ؟ ختامًا… الشهيد في غزة ليس رقمًا في قائمة موت، بل شاهد حق على عصر فقد بوصلته الأخلاقية.
هو المرآة التي تعكس قبح العالم، وهو البرهان على أن الدم الفلسطيني ما زال يصرخ: هنا أمة لم تمت.
إنها غزة… الشهيد الشاهد، والصرخة التي لن يسكتها الزمن. تعلموا… فغزة ليست ضحية، بل محكمة كبرى للتاريخ.