الحرية المؤجلة… إبعاد الأسرى ينغّص احتفالات الاستقبال

رام الله – في قصر رام الله الثقافي، الذي امتلأ منذ ساعات الصباح بأهالي الأسرى ووسائل الإعلام، امتزجت الهتافات بزغاريد الأمهات، واستعدّت القلوب لاستقبال من غابوا سنواتٍ خلف القضبان. كانت اللحظة المنتظرة منذ الأحد: الدفعة الثالثة من صفقة التبادل بين إسرائيل و»حماس»، التي حملت معها فرحةً ممزوجة بالترقّب والأمل.
لكن ما إن أَعلن الاحتلال عن تعديلاتٍ مفاجئة في القائمة قبل الإفراج، حتى خيّم الصمت على القاعة، وارتسمت الدهشة والخيبة على وجوه الأهالي.
وبين المنتظرين، كانت غدير أبو الرب، شقيقة الأسير مراد أبو الرب من جلبون، تصف لـ»القدس العربي» شعورها بالصدمة قائلة : «منذ أمس ونحن هنا ننتظره. أمي حلمت بهذا اليوم، واليوم كنا على وشك الفرح، لكن اكتشفنا أنه مُبعَد إلى غزة بعد عشرين سنة في السجن. الفرحة تحولت إلى ألم».
قضى مراد عشرين عاما وشهرين خلف القضبان، وكان من المفترض أن يعود إلى بلدته، إلا أن الاحتلال قرر إبعاده، لتصبح لحظة الحرية مؤجلة ومقسومة إلى فرحةٍ مختلطةٍ بالخذلان.
على الجانب الآخر، قالت رنين علي سعدي أبو حماد، التي كانت تحمل صورة شقيقها سعدي، أحد الأسرى المحررين بعد أكثر من خمسة عشر عاما من الاعتقال، إنها كانت تنتظر بشوقٍ أن تحضن أخاها الذي كان سندها وهي صغيرة لا تتجاوز ست سنوات، واليوم ترتدي الزي الفلسطيني لاستقباله، وتقول لـ»القدس العربي»: «كل التحية لأهلنا في قطاع غزة الذين ضحّوا من أجل حرية إخوتنا وباقي الأسرى، ونتمنى أن يخرج جميع الأسرى من السجون لأنها مقابر للأحياء».
وشارك الأهالي، على اختلاف أعمارهم وأماكنهم، في هذا المزيج من الفرح والحزن. فبعد أن تلقوا خبر الإفراج عن أبنائهم داخل الوطن، تفاجأوا بوجود جميع الأسرى المحررين عدا أبنائهم، إذ قرر الاحتلال في اللحظات الأخيرة إبعادهم خارج فلسطين.
وعبّر أحد الأسرى المحررين لـ«القدس العربي» عن مشاعره الأولى بعد تحرره قائلًا: «شعور لا يوصف… كنا محبوسين كالعصافير، واليوم رأينا السماء بلا شبك. خمس ساعات وأنا أتنفس حرية، لكن قلبي مع من لا زالوا داخل السجون. أنقل رسالة عاجلة بالتحرك من أجل تحرير الأسرى كافة وتبييض السجون، لأن السجون أسوأ من المقابر، في داخلها مأساة حقيقية ولا نستطيع الحديث أكثر لأننا مهددون من الاحتلال».
وقال الناشط السياسي أبو صالح: «الاحتلال يتحكم حتى في فرحتنا، لكن الحقيقة أن الصفقة لم تكن لتحدث لولا الصمود الأسطوري في غزة الذي أجبر إسرائيل والعالم على الرضوخ، ولو جزئيا، لشروط المقاومة.»
وأضاف: «نحن نعيش فرحة ممزوجة بالألم، فرحة لأن الأسرى يعودون، وألم لأن آلاف الفلسطينيين ما زالوا خلف القضبان، وعلى رأسهم القادة البارزون الذين رفض الاحتلال الإفراج عنهم: مروان البرغوثي، وعبد الله البرغوثي، وحسن سلامة، وأحمد سعدات، وإبراهيم حامد، وعبد الله قاسم، وجمال أبو الهيجا».
أهالي أسرى لـ«القدس العربي»: فرحة ناقصة
وعلى الرغم من الصدمة التي أصابت بعض الأهالي، فإن سعيد محمد حميد من مدينة رام الله أصرّ على الهتاف بالأهازيج الفلسطينية، وقال لـ»القدس العربي»: «علينا أن نتمسك بالوحدة، فهي الخيار الوحيد. ولأسرانا البواسل الذين بقوا داخل سجون الاحتلال نقول: يا دامي العينين والكفّين، إن الليل زائل، لا غرف توقيف باقية ولا زرد السلاسل. الشعب الفلسطيني لن ينكسر، الاحتلال أفرج عن بعض الأسرى وأبعد آخرين، لكن الحرية هي الكلمة».
أما الناشط السياسي عمر عساف فقال إن الصفقة مهمة إنسانيا، لكنها كشفت «طبيعة إسرائيل في التعامل مع قضية الأسرى كأداة ضغط سياسية لا كقضية إنسانية»، مضيفا: «الإبعاد والتلاعب بالقوائم جزء من محاولات الاحتلال لإضعاف الروح الجماعية الفلسطينية. لكن رغم ذلك، الشعب في الضفة وغزة أثبت أنه لا يفقد الأمل، وهذه إرادة الشعب الفلسطيني في الحرية والانتصار. نقول لأهالي الأسرى الذين لم يتحرر أبناؤهم في هذه الصفقة: تمسكوا بالصبر، فالصبر هو الحرية المؤكدة، وبالتأكيد لن تكون هذه الصفقة الأخيرة، لأن الفلسطينيين الأحرار لن يتركوا الأسرى وحدهم في غياهب السجون».
غدير أبو الرب لم تتمالك دموعها وقالت: «كانت لحظة ننتظرها منذ عشرين سنة. أمي ماتت قبل أن ترى ابنها حرا، واليوم تحقق حلمنا جزئيا، لكن ليس كاملًا، إذ تحرر أخي بعد كل هذه الأعوام لكنه مُبعَد، وتفاجأنا بخبر الإبعاد قبل دقائق قليلة من الإفراج عنه».
والتقينا رنين علي سعدي أبو حماد، شقيقة الأسير سعدي أبو حماد التي قالت: «سعدي خرج بعد 15 سنة، شعور الفرح لم يكتمل، لأن هناك من لا يزال في الأسر، والحمد لله على خروج أخي بعد سنواتٍ من الانتظار والصبر».
وفي حديثه لـ «القدس العربي»، قال أبو صالح: «ما جرى اليوم امتداد لمعركة الإرادة، وإن صمود غزة هو الذي حرّر الأسرى في الضفة الغربية… نوجّه التحية لأهلنا في غزة الذين صمدوا رغم المجازر، فهم الذين فرضوا هذه الصفقة وحموا معنى الحرية، لكننا في الضفة لم نكن على مستوى التحديات، فلو تحرك كل الشعب الفلسطيني كما تحركت غزة، لكانت النتائج أكبر».
وأضاف أبو صالح أن رام الله شهدت، بكل شجاعة، خروج الفلسطينيين بالمئات والعشرات والآلاف لاستقبال أسرانا الشجعان. وأوضح أن هذا الشعب مليء بالسعادة والفخر بالإفراج عن أسراه، لكنه أشار إلى أن هناك أسرى آخرين وقادة شجعانا ما زالوا في المعتقلات وزنازين الاحتلال. وذكر أن الحرية لم تُمنح بعد لكل هؤلاء، بمن فيهم مروان البرغوثي، وعبد الله البرغوثي، وإبراهيم حامد، وحسن سلامة، وكل الشجعان الذين لم تشملهم الصفقة.
وختم أبو صالح بالتحية لكل الشهداء، القادة والأبطال في غزة ولبنان واليمن، ولكل النساء والأطفال والرجال الذين كتبوا أسطورة الصمود في العصر الحديث. ومنذ تشرين الأول / أكتوبر الماضي، بلغ عدد الأسرى المحررين في ثلاث مراحل نحو 3,985 أسيرا وأسيرة، بينهم 486 محكوما بالمؤبد، و319 بأحكامٍ عالية، و33 بانتظار أحكام مؤبدة، و144 امرأة، و297 طفلًا، و2,724 من غزة اعتُقلوا خلال الحرب.
القدس العربي