سر النجاح الصيني..من الانكسار إلى الانتقام الاستراتيجي

خاص لـ ديرتنا نيوز – عمّان
بقلم الدكتورة ايمان عبدالوهاب الكساسبة/ مركز اليرموك للدراسات والابحاث
خلال ولاية دونالد ترامب الأولى بين 2017 و2021 فرضت الولايات المتحدة رسوماً جمركية على الواردات الصينية بقيمة 360 مليار دولار، واضطرت بكين للتوقيع على اتفاق المرحلة الأولى (Phase One Trade Agreement) في يناير 2020، الذي التزمت فيه بشراء سلع أميركية بقيمة 200 مليار دولار منها 32 مليار دولار منتجات زراعية لكن تقارير معهد بيترسون للاقتصاد الدولي (Peterson Institute for International Economics) أوضحت أن نسبة الالتزام لم تتجاوز 57% بحلول عام 2022 ومع عودة ترامب إلى السلطة عام 2025 رفضت الصين إعادة سيناريو الانكسار وابتكرت خطة للرد الاستراتيجي مدعومة بإمكانات هائلة
وأول هذه الإمكانيات السوق الصيني اذ يتجاوز تعداد سكان الصين 1.4 مليار نسمة في منتصف 2025 وتمثل الطبقة الوسطى نحو 25 في المئة منهم أي حوالي 350 مليون شخص بما يقارب عدد سكان الولايات المتحدة وقد سمح هذا السوق الضخم لبكين بتحويل اقتصادها كي يعتمد أكثر على الداخل فانحرفت حصة الاستهلاك المحلي من الناتج الإجمالي من 39 في المئة إلى 45 في المئة بين 2020 و2025 بدعم إنفاق حكومي على البنية التحتية تجاوز 2.1 تريليون دولار وسيطرت الصناعات المحلية على 34 في المئة من إنتاج السيارات الكهربائية عالمياً في 2025 مما خفّض حاجتها للسيارات الأميركية
وفي الوقت نفسه عززت الصين تحالفاتها التجارية خارج نطاق النفوذ الأميركي عبر توقيعها في 2022 على اتفاقية الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة (Regional Comprehensive Economic Partnership – RCEP) مع 15 دولة آسيوية وأوقيانوسية ففتحت أمامها سوقاً قيمتها 26 تريليون دولار وزادت صادراتها إليها نحو 18% بحلول 2025 كما عمّقت التعاون مع الاتحاد الأوروبي (European Union – EU) باتفاقيات استثمارية بلغت 500 مليار دولار في العام نفسه مستفيدة من التوترات بين بروكسل (Brussels) وواشنطن (Washington DC).
على صعيد التكنولوجيا انتقلت الصين من تبعية الغرب إلى الهيمنة فسيطرت شركة هواوي (Huawei) على 30% من أسواق الجيل الخامس (5G) عالمياً في 2025 مقارنة بـ 20% لشركات أميركية مثل كوالكوم (Qualcomm) وسجل الصينيون 65% من براءات اختراع الذكاء الاصطناعي (Artificial Intelligence Patents) على مستوى العالم بحسب تقارير منظمة الويبو (World Intellectual Property Organization – WIPO)
عندما أعادت واشنطن فرض تعريفات جديدة ردّت بكين بالمثل مستهدفة قطاعات أميركية حساسة مثل القطاع الزراعي ففرضت تعريفات مضادة على فول الصويا (Soybeans) ولحم الخنزير (Pork)
ولقد ركزت الصين على رفع التعرفة الجمركية على منتوجات من ولايات موالية تصويتيا لترامب مثل أيوا (Iowa) وتكساس (Texas) وكذلك استهدفت شركات أميركية عملاقة تعمل في الصين مثل شركة أبل (Apple Inc.) التي تحقق مبيعات سنوية هناك بقيمة 74 مليار دولار وشركة تسلا (Tesla Inc.) التي تُنتج 50% من سياراتها في شنغهاي (Shanghai) وسجلت أسهم تسلا انهياراً بنحو 40% فيما وصلت أسهم أبل إلى أدنى مستوياتها في 2025 وأجبرت هذه الأزمة ترامب على منح إعفاءات مؤقتة (Temporary Tariff Exemptions) من الرسوم على الهواتف الذكية والأجهزة الإلكترونية لحماية أسهم هذه الشركات
أما حرب المعادن النادرة (Rare Earth Elements) فقد لعبت دوراً بارزاً إذ خفضت الصين صادرات الليثيوم (Lithium) بنسبة 80% والنيوديميوم (Neodymium) بنسبة 90% مما تسبب في أزمة في سلاسل الإمداد الأميركية التي تعتمد على واردات سنوية بقيمة 200 مليار دولار من هذه المواد لتلبية صناعتها العسكرية والتكنولوجية
وفي خطوة أخرى لجأت بكين إلى تخفيض قيمة اليوان (Renminbi – RMB) بنسبة تتراوح بين 7 و10% عام 2025 فأبقت صادراتها تنافسية رغم الرسوم الأميركية وارتفعت قيمتها الإجمالية إلى 3.5 تريليون دولار بزيادة 25% عن عام 2020
ولم تخلُ النتائج من التكلفة فصادرات الصين إلى أميركا تقلصت من 535 مليار دولار عام 2020 إلى 450 مليار عام 2025 ولكن قفزت صادراتها إلى دول RCEP إلى 1.1 تريليون دولار وبلغت مديونية الشركات الصينية الغير مالية مستويات قياسية تقارب 300 % من الناتج المحلي وعلى الجانب الأميركي تسببت التعريفات المضادة في خسائر فادحة للقطاع الزراعي الرقابة بنحو 25.7 مليار دولار من صادراته إلى الصين حيث تحولت واردات الصين الزراعية إلى البرازيل (Brazil) والأرجنتين (Argentina) وتشيلي Chile). ) وفي ظل هذه الضغوط تضاعفت مخاوف التضخم لدى المستهلكين الأميركيين وسجلت توقعات التضخم على مدى 12 شهرًا مستوىً قياسيًا عند 6.7 % في أبريل 2025 مقارنة بـ 2.5 % في 2020 وخلال هذا المشهد حققت الصين نمواً بلغ 5.5 في المئة مقابل 1.7 في المئة للولايات المتحدة واستثمرت نحو 2.4 تريليون دولار في البحث والتطوير بين 2021 و2025 مقابل 1.7 تريليون أميركي
ان هذه الأرقام توضّح أن الحروب التجارية حتى وإن بدت متبادلة قد تُلحِق أضرارًا اقتصادية جسيمة وتفرض تكاليف غير متوقعة على كلا الجانبين
ولكن في ظل تصاعد التوترات التجارية بين الولايات المتحدة والصين تسعى إدارة الرئيس دونالد ترامب على الأرجح إلى حشد دعم دولي لتقليص العلاقات التجارية مع بكين من خلال التفاوض بشكل انفرادي مع كل دولة في محاولة لجعل قرار رفع التعرفة الجمركية يبدو وكأنه قرار جماعي و مستخدمةً التعريفات الجمركية كأداة ضغط في المقابل حذرت الصين من أنها ستتخذ إجراءات انتقامية ضد أي دولة تتخذ خطوات تضر بمصالحها التجارية ووصفت هذه المحاولات بأنها تنمر أحادي الجانب تجد العديد من الدول خاصة في منطقة آسيا والمحيط الهادئ نفسها في موقف صعب حيث تسعى للحفاظ على علاقات اقتصادية متوازنة مع كل من الولايات المتحدة والصين هذا الوضع يثير تساؤلات حول من سيخضع للضغوط الأمريكية ومن سيقاومها في وقت تتزايد فيه التحديات أمام النظام التجاري العالمي
ولكن نحن في الأردن هل نستلخص من هذه التجربة دروساً للغد فبناء سوق داخلية قوي عبر رفع الاستهلاك المحلي وتنمية الطبقة الوسطى يشكل درعاً ضد تقلبات التجارة الخارجية والتنويع في الشركاء التجاريين وتحالفات متعددة الأطراف يقلل من مخاطر الاعتماد على سوق واحد والاستثمار المكثف في البحث والتطوير والتكنولوجيا يمنح قدرة تفاوضية وتحويل الإنتاج الوطني إلى مركز تنافسي وأخيراً فإن إقامة بنية تحتية اقتصادية متينة تدعم النمو المستدام وتوفر القدرة على المناورة في الأزمات يجعل من الممكن تحويل الضربات إلى فرص حقيقية للنمو وإعادة رسم قواعد اللعبة إقليمياً وعالمياً .