عقل الدولة يستعيد الدفّة وينفّذ القانون

ديرتنا – عمّان / اربد
الشاعر أحمد طناش شطناوي/ رئيس فرع رابطة الكتاب الأردنيين – إربد
في أزمنة التحولات الكبرى، وحين تتداخل الحقائق بالرغبات، والمصالح بالأوهام، لا بد لعقل الدولة من أن يستيقظ؛ لا لينقضّ، بل لينظّم؛ لا ليواجه بالمجابهة، بل ليعيد ترتيب الأدوار وتوزيع المسؤوليات ضمن إطار الدستور، وفلسفة العقد الاجتماعي التي تمثل جوهر الكيان السياسي الحديث.
قد تواجه الدول من وقت إلى آخر تحديات لا تأتي فقط من الخارج، بل قد تنبع من داخل بنيتها المجتمعية، حيث تنمو حالات الالتباس بين حرية التنظيم وشرعية التكوين، وبين النقد والتهديد، وبين الفكرة ووسائل فرضها؛ وهنا لا خيار أمام الدولة إلا أن تلجأ إلى ما تمتلكه من أدوات سياسية وأمنية وإدارية، لا لتُرهب، بل لتُطمئن؛ لا لتفرض، بل لتستعيد المعنى: معنى أن تكون الدولة حاضرة ومسؤولة وعادلة.
فالسيادة في أصلها، ليست شعارًا سياسيًا يُلوّح به، بل ممارسة عقلانية تتجلى في قدرتها على إنفاذ القانون، وضبط حدود التعدد دون مصادرة التنوع، وإعادة هندسة المجال العام حين تخرج بعض مكوناته عن النسق.
وحين تقرأ الدولة الواقع جيدًا، لا ترتبك؛ بل تستخدم عقلها لا غرائزها؛ فهي لا تُسرف في استخدام أدواتها، لكنها تُتقن توقيت اللجوء إليها؛ وقد علمتنا التجربة، أن الدول العاقلة تُؤثر التدرج على الصدمة، والحوار على القطيعة، لكنها – في لحظة الحسم – لا تتردد في التذكير بأنها لا تزال تملك مفاتيح القرار وموازين القوى.
ومن هنا لا بد أن نقرأ المشهد الأخير – كما هو – فعلًا من أفعال “الاستعادة”، لا “الإقصاء”، وتأكيدًا على أن هيبة الدولة لا تقوم على الصمت، بل على الكلمة المدروسة، والخطوة المتزنة، والاستناد إلى معلومات دقيقة لا شعارات عاطفية؛ إن تنفيذ القانون ليس ممارسة سلطوية، بل هو تجديد دوري للعقد الوطني، وتثبيت للثقة العامة بأن هذا الكيان لا يُترك رهينة لعوامل التفكك أو العبث.
ولعل أعظم ما تُجيده الدولة في مثل هذه اللحظات، هو أنها لا تدخل في خصومة مع أفراد أو جماعات، بل تُعيد الجميع إلى مربع القانون، لأن القانون ليس غاية بحد ذاته، بل أداة تنظيم للعيش المشترك، وضمانة لأن تبقى السياسة داخل حدود الدولة، لا فوقها أو خارجها.
وبينما يترقب البعض الصراع، تفاجئهم الدولة بالعقل؛ وبينما ينتظرون لغة الخشونة، تأتي بلغة الحكمة؛ وبينما يتوقعون التشظي، تبني الدولة جسورًا جديدة نحو التماسك، عبر إجراءات مدروسة، قد لا تُفصح عن كل شيء، لكنها تقول الكثير لمن يُحسن قراءة الرسائل غير المباشرة.
إن عقل الدولة لا ينام، لكنه يصمت حينًا ليصيغ الاستراتيجية، ويراقب بصبر، ثم يعود ليضع النقاط فوق الحروف، لا بالكلمات، بل بالأفعال التي تملأ الفراغ وتصحّح المسار؛ وهنا يكمن الفرق بين الدولة التي تستجيب للأحداث، وتلك التي تصنع الحدث ضمن رؤيتها السيادية العاقلة.
إن ما نعيشه اليوم هو أكثر من لحظة سياسية؛ إنه استدعاء هادئ لماهية الدولة، وجوهر وجودها، وضرورة حضورها؛ حضور ليس أمنيًا فقط، بل وجودي، ينطق بلغة القانون، ويؤمن بأن العدل لا يكون إلا بإنفاذ النظام، لا بترك الأمور للمجهول.
فالدولة لا تغيب، إنها تُعيد ترتيب حضورها، وهذه هي الحكمة العميقة لعقل الدولة، أن تدرك الدولة اللحظة المناسبة، وتستخدم أدواتها بما يليق بفكرة الدولة، لا بردّات الفعل؛ فاللحظة ليست صراعًا بين أطراف، بل إعادة إنتاج للشرعية داخل الحيّز الوطني، حيث لا مكان للظلال، بل لكل من ينضوي تحت نور القانون.