السباق العالمي على صحة الإنسان أمريكا والصين في الصدارة والأردن في موقع استراتيجي

ديرتنا – عمّان
بقلم الدكتورة إيمان عبدالوهاب الكساسبة مركز اليرموك للدراسات والابحاث
في عصرنا هذا لم تعد صحة الإنسان مجرد قضية داخلية تهم وزارات الصحة أو المؤسسات الطبية فحسب بل تحولت إلى ساحة صراع استراتيجي عالمي حيث تتنافس الدول العظمى على امتلاك أدوات التأثير في هذا القطاع الحيوي الذي يشكل العمود الفقري للأمن القومي لأي دولة وأصبحت صناعة الأدوية بما تحمله من أبعاد تكنولوجية وتجارية وسياسية محورًا لهذا التنافس خاصة بين الولايات المتحدة والصين فيما تسعى دول أخرى مثل الهند والاتحاد الأوروبي إلى ترسيخ مواقعها وسط هذه المعادلة المتحولة
وفي هذا المشهد الديناميكي يظهر الأردن كلاعب إقليمي يملك من الإمكانات ما يجعله جزءًا من المعادلة الدولية إذا ما استثمر نقاط قوته واستفاد من التحولات الجيوسياسية والاقتصادية العالمية
الولايات المتحدة عملاق الأدوية بين التفوق والضغوط
كانت الولايات المتحدة دائمًا في صدارة مشهد الابتكار الدوائي حيث تعد شركاتها من بين الأكبر والأكثر تمويلا في العالم ومنذ عام ألفين ضخت شركات الأدوية الأميركية أكثر من تريليون دولار في مشاريع البحث والتطوير مما جعل هذا القطاع في طليعة القطاعات الداعمة للاقتصاد المعرفي الأميركي شركات كبرى فايزر (Pfizer) وموديرنا (Moderna) لم تعد مجرد شركات أدوية بل أصبحت مؤسسات تؤثر في السياسة العامة ومصادر للنفوذ الدولي في أوقات الأزمات كما ظهر جليا خلال جائحة كوفيد
وعلى رغم هذا التفوق والقوة تواجه الولايات المتحدة تحديات لا يمكن تجاهلها منها ارتفاع أسعار الأدوية بشكل كبير وهو ما أثار موجات من الانتقادات الداخلية ودفع المشرعين إلى التفكير في تدخلات تنظيمية كما أن الاعتماد الكبير على سلاسل التوريد الدولية وخاصة من الصين والهند يجعل قطاع الأدوية عرضة للصدمات الجيوسياسية كما حصل خلال الجائحة إلى جانب التنافس المتزايد من قوى ناشئة مثل الصين التي بدأت تقضم من الحصة الأميركية في مجالات الابتكار والتطوير
الصين من مصنع العالم إلى مختبر الابتكار
تجاوزت الصين موقعها التقليدي كمصنع للعالم واضعة نصب عينيها التحول إلى قوة علمية وصحية رائدة على مستوى العالم وفي السنوات الأخيرة ضاعفت استثماراتها في مجالات التكنولوجيا الحيوية لا سيما الذكاء الاصطناعي المستخدم في اكتشاف الأدوية وتصميم العلاجات الجينية
و أظهرت البيانات أن الإنفاق على الأدوية في الصين قد ارتفع ليصل إلى 247 مليار دولار عام 2023ومن المتوقع أن تقفز إلى 345 مليار دولار بحلول عام 2033 كما وافقت الجهات التنظيمية الصينية على 113 دواء مبتكرا منذ بدء تنفيذ الخطة الخمسية الرابعة عشرة عام 2021 وهو ما يعد مؤشرا واضحا على تسارع الابتكار
إضافة إلى ذلك تسعى الصين لتقليل اعتمادها على الأدوية الأجنبية وتوظف أدواتها الدبلوماسية والاقتصادية ضمن مبادرة الحزام والطريق لتعزيز صادراتها الصحية إلى دول آسيا وإفريقيا وهو ما يجعلها منافسا متعدد الأبعاد في قطاع الأدوية
على الجانب الآخر تلعب الهند دورًا حيويًا في شبكة الإمداد الدوائي العالمية حيث توفر ما يقارب 40% من احتياجات الولايات المتحدة من الأدوية الجنيسة وأكثر من 50% من احتياجات إفريقيا وتقدر قيمة صادرات الأدوية الهندية بحوالي 26.5 مليار دولار في السنة المالية 2023/2024 فيما تبلغ قيمة السوق المحلي حوالي 50 مليار دولار
ولكن هذا النمو يصطدم بواقع مقلق فقد كشفت تقارير رقابية أن أكثر من 36% من مصانع الأدوية التي تم تفتيشها لم تلتزم بالمعايير الدولية وتم إغلاقها مما أثار تساؤلات حول الجودة والرقابة وتبقى الهند بحاجة إلى تعزيز جودة منتجاتها من خلال تحديث البنية التحتية الرقابية خاصة إن أرادت الحفاظ على صورتها كمزود موثوق في الأسواق الغربية
الاتحاد الأوروبي طموح تقيده البيروقراطية
في المقابل يواجه الاتحاد الأوروبي تراجعا ملحوظا في مجال الابتكار الدوائي وقد أشار الرئيس التنفيذي لشركة AstraZeneca أسترازينيكا إلى أن البيئة التنظيمية الأوروبية تعيق جذب الاستثمارات مقارنة بالولايات المتحدة حيث تتسبب التشريعات الصارمة وتأخر الموافقات على التجارب السريرية في إحجام المستثمرين عن ضخ أموالهم داخل أوروبا ما أدى إلى تحول واضح نحو السوق الأميركية
وإذا لم يعالج هذا التراجع عبر إصلاحات تنظيمية وتشجيع الابتكار فإن أوروبا قد تفقد ريادتها التاريخية في هذا القطاع خاصة أمام التوسع الآسيوي
الأردن مركز إقليمي واعد في صناعة الدواء
و وسط هذا التنافس العالمي، يعتبر الأردن نموذجًا متميزًا لدولة استطاعت تحقيق قفزات نوعية في قطاع صناعة الأدوية ففي عام 2023 بلغت صادراته من الأدوية 773.4 دولار وحققت نموا بنسبة 14.8% خلال عام 2024برغم من الظروف الجيوسياسية المعقدة في المنطقة
ويمتلك الأردن بيئة صناعية وتنظيمية متقدمة نسبيا إذ تتمتع شركاته بمعايير جودة عالية كما تعد السوق الأردنية من الأكثر احتراما للمعايير الدوائية في العالم العربي
الفرصة الأردنية في ظل التحولات العالمية
أمام الأردن الان فرصة ذهبية للنهوض بمكانته الدولية في هذا القطاع شريطة الاستفادة الذكية من التحولات الراهنة ومن أبرز التوصيات الاستراتيجية
- تعميق الشراكة مع الصين في مجال البحث والتطوير، والاستفادة من تجاربها في الذكاء الاصطناعي وتصميم الأدوية.
- توسيع الأسواق التصديرية إلى دول جنوب شرق آسيا وإفريقيا، من خلال مبادرة الحزام والطريق
- إنشاء صندوق سيادي لتمويل شراكات تكنولوجية مع كيانات مثل Shanghai Pharmaceuticals.
- تطوير منطقة خاصة للدواء الذكي ضمن حدود منطقة العقبة الااقتصادية الخاصة تستقطب استثمارات عابرة للقارات عبر تسهيل الإجراءات وتقديم حوافز للابتكار
- إطلاق اكاديمية أردنية-صينية لتدريب 500 صيدلاني عربي سنوياً على تقنيات الذكاء الاصطناعي الدوائي
- تعزيز التعاون الإقليمي مع الدول العربية لبناء تكتل دوائي مشترك يعزز الاكتفاء الذاتي العربي
المستقبل صراع السيادات الطبية
تشير توقعات McKinsey ماكنزي إلى أن السوق الدوائي الصيني قد يتجاوز نظيره الأميركي بحلول عام 2035 لكن التنافس الحقيقي لم يعد مقتصرا على الأدوية بل يمتد إلى السيادة الصحية الكاملة
البيانات الصحية أصبحت ثروة وطنية إذ جمعت الصين بيانات مليار وأربعمئة مليون مواطن عبر منصة السحابة الصحية مما يمنحها ميزة هائلة في أبحاث الطب الدقيق والتكنولوجيا الحيوية تمثل جبهة جديدة للصراع فهناك سباق بين معهد برود الأميركي وشركة بي جي آي الصينية على ريادة تقنيات مثل تعديل الجينات وعلاجات السرطان المتقدمة
كما أن إعادة تشكيل التحالفات أمر محتوم حيث تخطط واشنطن لتقليل اعتمادها على آسيا بنسبة 30% في واردات المواد الفعالة بحلول عام 2025 من خلال التعاون مع دول في أمريكا اللاتينية
وختاما فان هذا التحول يعيد رسم خريطة التحالفات الصحية العالمية ويمهد لتوزيع جديد للقوة الناعمة المستندة إلى الابتكار الصحي وفي ظل تحول النظام الصحي العالمي إلى ميدان للتنافس الجيوسياسي لم يعد الحضور في قطاع الأدوية ترفا اقتصاديا بل ضرورة استراتيجية تضمن الأمن القومي والصحي
وبينما تشتد المنافسة بين أميركا والصين والهند تظهر دول متوسطة مثل الأردن كجهات فاعلة بإمكانها لعب أدوار مؤثرة إن تبني الأردن لرؤية صناعية طموحة تستند إلى الشراكات الدولية والابتكار المحلي قد يجعله مركزا إقليميا للأبحاث والإنتاج والتصدير وهو ما سيسهم في تعزيز اقتصاده الوطني من جهة ودعم الأمن الصحي في الإقليم من جهة أخرى
فالعالم لم يعد أحادي القطب في مجال الدواء بل يشهد ولادة نظام دوائي متعدد الأقطاب يفتح الباب أمام الدول الطامحة لصياغة مكانة جديدة في خارطة الصحة العالمية